نعود الآن إلى خبر عدو الله نمرود، وما آل إليه أمره في دنياه، وتمرده على الله تعالى، وإملاء الله له. كان أول جبار في الأرض، وكان إحراقه إبراهيم كما تقدم ذكره. فأخرج إبراهيم - عليه السلام - من مدينته، وحلف أنه يطلب إله إبراهيم، فأخذ أربعة أفراخ نسور فرباهن باللحم والخمر حتى كبرن وغلظن، فقرنهن بتابوت وقعد في ذلك التابوت، فأخذ معه رجلًا ومعه لحم لهن، فطرن به حتى إذا ذهبن أشرف ينظر إلى الأرض فرأى الجبال تدب كالنمل، ثم رفع لهن اللحم ونظر إلى الأرض فرآها يحيط بها بحر كأنها فلك في ماء، ثم رفع طويلًا فوقع في ظلمة فلم ير ما فوقه وما تحته، ففزع وألقى اللحم، فاتبعته النسور منقضات. فلما نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضات وسمعن حفيفهن، فزعت الجبال وكادت تزول ولم يفعلن، وذلك قول الله تعالى: ﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾. وكانت طيرورتهن من بيت المقدس، ووقوعهن في جبل الدخان.
فلما رأى أنه لا يطيق شيئًا، أخذ في بنيان الصرح فبناه حتى علا وارتقى فوقه ينظر إلى إله إبراهيم بزعمه، وأحدث ولم يكن يحدث. وأخذ الله بنيانهم من القواعد من أساس الصرح فسقط، وتبلبلت الألسن يومئذ من الفزع، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانًا، وكان لسان الناس قبل ذلك سريانيًّا.
هكذا روي أنه لم يحدث، وهذا ليس بشيء، فإن الطبع البشري لم يخل منه إنسان حتى الأنبياء - صلوات الله عليهم - وهم أكثر اتصالًا بالعالم العلوي، وأشرف أنفسًا، ومع هذا فيأكلون ويشربون ويبولون ويتغوطون، فلو نجا منه أحد لكان الأنبياء أولى [ص: ١٠٤] لشرفهم وقربهم من الله تعالى. وإن كان لكثرة ملكه فالصحيح أنه لم يملك مستقلاً، ولو ملك مستقلاً لكان الإسكندر أكثر ملكًا منه، ومع هذا فلم يقل فيه شيء من هذا.
الروايات التاريخية
قال زيد بن أسلم: إن الله تعالى بعث إلى نمرود بعد إبراهيم ملكًا يدعوه إلى الله أربع مرات فأبى، وقال: "أرب غيري؟" فقال له الملك: اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام، فجمع جموعه، ففتح الله عليه بابًا من البعوض، فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلتهم ولم يبق منهم إلا العظام، والملك كما هو لم يصبه شيء. فأرسل الله عليه بعوضة فدخلت في منخره، فمكث يضرب رأسه بالمطارق، فأرحم الناس به من يجمع يديه ويضرب بهما رأسه. وكان ملكه ذلك أربعمائة سنة، وأماته الله تعالى، وهو الذي بنى الصرح.
وقال جماعة: إن نمرود بن كنعان ملك مشرق الأرض ومغربها، وهذا قول يدفعه أهل العلم بالسير وأخبار الملوك، وذلك أنهم لا ينكرون أن مولد إبراهيم كان أيام الضحاك الذي ذكرنا بعض أخباره فيما مضى، وأنه كان ملك شرق الأرض وغربها.
المصادر والمراجع:
- تفسير ابن كثير
- تاريخ الطبري
- الكامل في التاريخ لابن الأثير